حين ينبلج هلالُ محرَّم، تستقبلُ الأمَّةُ
الإسلاميَّة عامًا هجريًّا جديدًا، لا على هيئةِ تاريخٍ جامدٍ يُدوَّن في رؤوس الصَّفحات،
بل على صورةِ لحظةٍ حيَّةٍ نابضة مُلهمة، تَفتحُ باب التأمُّل، وتدعو إلى مراجعة الذات،
وتمدّ يد العِظة إلى كلّ من أدرك رسائل الله المرسلة في أظرفة الأقدار عبر بريد
الحياة، وتفطّن إلى أن الأيّام خزائنُ الأعمال، وأنّ العام الجديد ليس محض دورانٍ فلكيّ،
بل هو وقفةٌ مع النَّفس على مَشارف عمرٍ يتناقص، وزمنٍ يتقدَّم.
الهجرة: معراجُ الأمة وموعدُ التأسيس
كان حدث الهجرة النبويَّة، الذي أُرِّخ
به هذا التقويم، نقطةَ انعطافٍ كبرى في تاريخ الرسالة المحمديّة؛ لا لأنه انتقالٌ من
مكانٍ إلى آخر، ولكن لأنه تحوُّلٌ من طور الاستضعاف إلى مرحلة التمكين، ومن ضيق الدعوة
إلى سَعَة الدولة، ومن الحصار في مكة إلى رحابة المدينة. فالهجرة لم تكن فرارًا من
بطش قريش، بل كانت انطلاقةً ربَّانية نحو تأسيس حضارة إنسانية، عمادها التوحيد، وغايتها
العدل، وأداتها الرحمة.
وفي اختيار الخليفة الراشد عمر بن الخطاب
– رضي الله عنه – لحدث الهجرة مبدأً للتأريخ، إشارةٌ عميقةٌ إلى مركزية هذا الحدث في
وعي الأمة وهويّتها. فلم يكن الميلاد النبوي، ولا البعثة، ولا الإسراء والمعراج، بل
الهجرة، إذ هي المفرق بين مرحلتين، والحدُّ الفاصل بين عهد الضعف والانكفاء، وعهد القوة
والبناء.
الهجرة الخاصّة: "لا هجرة بعد الفتح"
جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن رسول الله ﷺ قال:
«لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيّة،
وإذا استُنفرتم فانفروا».
فالهجرة الخاصَّة – وهي الهجرة إلى رسول
الله ﷺ نحو المدينة – انقطعت بفتح مكة، إذ لم
يعد ثمّة دار كفر تُترك، ولا دار إيمان يُقصد إليها، فقد دخل الناس في دين الله أفواجًا،
وصارت مكةُ حاضرة الإسلام، وموئل التوحيد.
غير أن انقطاع هذا النوع الخاص من الهجرة،
لا يعني انقطاع الهجرة بمعناها الشامل، بل فتح الأفق نحو المعنى الأبقى والأعمق و
القائم إلى قيام الساعة.
الهجرة العامّة: "والمهاجر من هجر
ما نهى الله عنه"
ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال:
«والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
إنها الهجرة التي لا تنقطع، ما بقي الليل
والنهار. هجرةٌ متجددة، لا تحتاج إلى قوافل أو جواز سفر، بل تتطلّب يقظة القلب، واستقامة
الحال، وعزيمةً لا تفتر. هجرةٌ من المعصية إلى الطاعة، من الغفلة إلى الذكر، من الرياء
إلى الإخلاص، من الحسد إلى الصفاء، ومن العجز إلى السعي.
تلك الهجرة التي يمكن أن يتحقّق بها كلُّ
مسلم، مهما كان موطنه أو ظرفه، وهي التي لا يُعذر أحدٌ في التخلّف عنها. ومن عجائب
السنّة الربّانية أن جعلت أعظم الجهاد، في أحايين كثيرة، هو مجاهدة النفس؛ كما قال
النبي ﷺ:
«أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله
عز وجل».
فاتحة العام: لحظة صدق مع النفس
إن فاتح محرَّم ليس مجرّد مناسبة تُتلى
فيها سيرة الهجرة وتُذرف فيها العبرات، بل هي موعدٌ مع الذات، ومجالٌ لمحاسبتها، كما
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا
أنفسكم قبل أن تُوزَنوا».
وما أحوجنا في مستهلِّ عامٍ جديد، أن ننظر
في صحائف قلوبنا، نُميط عنها غبار الغفلة، ونستنبت فيها بذور الخشية، ونتعهّدها بالسقيا،
فنهاجر إلى الله هجرةً متجدّدة، نخلع فيها رداءَ التهاون، ونلبس ثوب الجدّ، ونجعل من
كلّ يومٍ خطوةً نحو العروج الروحي، ومن كلّ لحظةٍ مناجاةً تُقرّبنا من مولانا.
استلهام الدروس: الهجرة مشروعُ نهضةٍ دائم
الهجرة ليست صفحةً من الماضي تُروى فصولها،
بل هي مشروعُ نهضةٍ دائم. تعلِّمنا أن لا نركن إلى الراحة إن ضاقت بنا السبل، وأن لا
نتشبّث بالمكان إن تعذّر فيه أداء الرسالة. تعلِّمنا أن النصر وليدُ الصبر، وأن الغار
قد يكون مَعبَراً إلى النور، وأن الطريق – وإن حُفَّ بالمكاره – فإن نهايته النصر والتمكين،
ما دامت الوجهة هي الله.
في زمن التيه والاضطراب، تبقى الهجرة مشعلاً
للهداية. وفي زمان الغربة الثانية للإسلام، كما أخبر المصطفى ﷺ بقوله:
«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما
بدأ، فطوبى للغرباء»، تبقى الهجرة المعنوية – من الفُرقة إلى الوحدة، ومن الهوى إلى
الوحي، ومن التبعية إلى الريادة – ضرورةً حتمية لا تحتمل التأجيل.
خاتمة: اجعلوا من العام مفتتح عهد جديد
فلنجعل من هذا العام الهجري الجديد عهداً مع الله، نخطّ فيه على صحائف أعمالنا ما نرجو أن نلقاه به سبحانه، نتحرّى فيه الصدق، ونغرس في وجداننا شجرةَ الهجرةِ إلى الله، نَسقيها بدموع التوبة، ونرعاها بالعزيمة، ونُظلّلها بالإخلاص.
#إسلاميات