الشباب والتدين: تأملات تربوية في زمن الانفجار التكنولوجي بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري - النهج
728x90

2025-06-24

الشباب والتدين: تأملات تربوية في زمن الانفجار التكنولوجي بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري

 




يعيش شباب اليوم في عالم مفتوح، متداخل، ومشحون بتدفقات معرفية وثقافية هائلة. إنه جيل الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، والثورة الرقمية المتسارعة. في هذا السياق، تثار تساؤلات جوهرية حول علاقة هذا الجيل بالدين:

  • هل لا يزال الدين مرجعية روحية ملهمة للشباب؟

  • أم أن التدين أصبح تقليدًا متجاوزًا، أو عبئًا تُقابله الأجيال الجديدة بشيء من التوجس؟

بين هذه الثنائية، لا يصح أن نقع في التعميم أو الأحكام المطلقة. فالعلاقة بين الشباب والتدين ليست علاقة صراع أو تطابق، بل علاقة ديناميكية، تتأرجح بين الاحتضان والتساؤل، وبين الانجذاب والارتياب، لكنها تظل قابلة للبناء والتجديد.

أولًا: التدين من منظور نفسي وتربوي

تشير دراسات علم النفس الديني (مثل أعمال جيمس فاولر وكينغ وبيست) إلى أن مرحلة الشباب تتسم بـ:

  • البحث عن المعنى.

  • الرغبة في الانتماء إلى منظومة قيم.

  • التمرّد على الأطر التقليدية غير المُقنعة.

وهذا يعني أن الشاب لا يرفض الدين في ذاته، بل قد يرفض صورة معينة للتدين المنغلق أو غير المتصل بواقعه. فالدين الذي يتحدث بلغة الماضي فقط، ولا يفهم تطلعات الشباب، سيفقد تأثيره، لا لضعفٍ فيه، بل لسوء تقديمه.

ثانيًا: الانفجار التكنولوجي وتغير أنماط التدين

في ظل التكنولوجيا، لم يعد تلقي التدين مرتبطًا بالمسجد أو الكتاب الورقي أو الدرس الأسبوعي، بل أصبح له مظاهر جديدة:

  • منصات رقمية لنشر الفتاوى والتأملات القرآنية.

  • قنوات مؤثّرين دينيين شباب يخاطبون أقرانهم بلغة بسيطة وعميقة.

  • تفاعل الشباب مع مفاهيم مثل الروحانية، الوجود، القيمة الذاتية، في ضوء الدين.

لكن هذا التفاعل أيضًا جعلهم أكثر نقدًا وتمحيصًا. فالشاب اليوم لا يقبل التدين القائم على الطاعة العمياء، بل يبحث عن الدين الذي يقنع لا يقمع، ويُحرر لا يُرهب.

ثالثًا: لماذا يتوجس بعض الشباب من التدين؟

التوجّس لا يعني الرفض، بل هو تعبير عن أزمة ثقة. وتشير الأبحاث إلى عدة أسباب لهذا التوجس:

  1. خطاب ديني جاف أو متشدد يُحاكم ولا يُحاور.

  2. فجوة لغوية ومعرفية بين المؤسسات الدينية والجيل الرقمي.

  3. نقص القدوات الدينية الشابة التي تمثل التدين المتزن المنفتح.

  4. استخدام الدين أحيانًا في تبرير العنف أو الإقصاء، مما يشوه صورته في أذهانهم.

رابعًا: كيف نبني جسور الثقة من جديد؟

الحل لا يكمن في "إقناع الشباب بالدين"، بل في فتح حوار حقيقي بين الدين وقضايا الشباب. وهنا يبرز الدور التربوي والروحي، عبر مسارات:

1. تجديد الخطاب الديني بلغة شبابية

– من خلال محتوى رقمي جذاب، وخطاب جديد يجمع بين فهم الواقع و الوعي الأخلاقي، ويجمعون بين الأصالة والمعاصرة.

2. التدين كتحرير لا كقيد

– عرض الدين كقوة نفسية وروحية تحرر الإنسان من العبودية للمادة، وتمنحه بوصلة قيمية وسط فوضى الخيارات.

3. فتح مساحات للأسئلة والشكوك

– لا بد من بيئات دينية تسمح بطرح الأسئلة الوجودية دون تخويف أو استهزاء، لأن الشك مرحلة من مراحل الإيمان الناضج.

4. القدوة الحية

– الشباب لا يتأثر بالخطب بقدر ما يتأثر بالشخصيات التي تجسّد القيم الإيمانية في سلوكها اليومي: رحمة، تواضع، صدق، مسؤولية...

خامسًا: التربية الروحية في عصر السرعة

في زمن التشتت الرقمي، يحتاج الشباب إلى مرتكزات روحية صامتة، لا تفرض نفسها، بل تحتضن هشاشتهم وتمنحهم معنى وطمأنينة. التربية الإيمانية ليست فرض شعائر فقط، بل:

  • تنمية الوعي بالذات.

  • زرع المعاني الإيمانية :الحب, الخشية, الرجاء, التوكل...

  • تعزيز العلاقة بالقرآن و مع القرآن كخطاب حي يخاطب القلب والعقل و يصحح الواقع.

خاتمة: الدين ليس ضد الشباب، بل معهم

في النهاية، يمكن القول إن العلاقة بين الشباب والدين ليست متوترة بطبيعتها، بل مشوشة بفعل ظروف اجتماعية وثقافية وتقنية. المطلوب ليس أن نعيد الشباب إلى الدين، بل أن نُعيد تقديم الدين إليهم بطريقة تحترم عقولهم، وتُشبع أرواحهم، وتخاطب وجدانهم بلغتهم.

حينها فقط سيتحول الدين من مساحة توجس إلى ملاذ معنوي ومعرفي وروحي، ومن نظام تكليف إلى مشروع حياة.

728x90