في الوقت الذي يُفترض فيه أن تُشكّل المدرسة
المغربية رافعة لبناء الإنسان، وتحقق التوازن بين التعليم كمعرفة، والتربية كتهذيب
وتنمية للوعي، يكشف الواقع الميداني عن اختلالات بنيوية تُفرغ المؤسسة التعليمية من
رسالتها الأصلية، وتحوّلها إلى فضاء يمارس فيه "التلميذ" حفظ المقرر، دون
أن يعيش "المسار" التربوي السليم.
تغيب التربية شيئًا فشيئًا من القسم، وتتوارى
القيم خلف الجداول الزمنية، ويغدو الأستاذ رهينًا لإكراهات مهنية وهيكلية تجعله، في
كثير من الأحيان، مجرد ناقل معلومات لا مُوجّهًا تربويًا.
بين سندان المقرر ومطرقة الزمن المدرسي
يجد الأستاذ نفسه اليوم، داخل القسم، أمام
معادلة صعبة: التوفيق بين الكمّ الهائل من الدروس، وضيق الحيز الزمني المخصص لها. وفي
ظل التوزيعات الزمنية الصارمة، يُجبر على اللهاث خلف "إتمام المقرر" أكثر
من حرصه على "تحقيق أثره". وقد عبّر أحد الأساتذة عن ذلك قائلًا:
"أشعر أحيانًا أنني أدرّس أشباحًا،
أراهم أمامي، لكن لا أملك الوقت لأقترب من عوالمهم."
وما يزيد الوضع تفاقمًا، أن التقييم الإداري
والتربوي لم يعد يلتفت إلى الجانب القيمي أو التربوي، بل بات محكومًا بمدى احترام الجدولة
الزمنية، وعدد الحصص، وملء دفاتر النصوص والاتزام التام بالجذاذات. وهكذا، يتحوّل التعليم إلى فعل
ميكانيكي، يُفرَغ من جوهره التربوي والإنساني، وتصبح المدرسة مجرد قناة لنقل المعرفة
المجردة، لا لصناعة المواطن.
تفتيش تعليمي... دون بوصلة تربوية
المفتش التربوي، الذي كان من المفترض أن
يكون عينًا ناقدة وموجهة على الجانبين: التعليمي والتربوي، بات يميل في كثير من الأحيان
إلى مراقبة الشكل دون الجوهر. إذ ينصبّ اهتمامه على منجزات الأستاذ الرقمية، واحترام
الغلاف الزمني، والتقيد بالجذاذات، بينما نادرًا ما يُطرح السؤال عن ممارسات الأستاذ
في تهذيب السلوك، أو توجيه التلاميذ عند صدور سلوكيات غير تربوية.
إن هذا الإغفال المنهجي للبُعد القيمي يعمّق
الشرخ بين جناحي العملية التعليمية: "التعليم" و"التربية"، ويجعل
المدرسة المغربية تفتقر إلى بوصلة واضحة في تنشئة النشء.
ولعل أبرز ما يكشف هذا الخلل، غياب مفتشين
مختصين في التربية السلوكية والقيمية، يواكبون الأساتذة في مهامهم التربوية، كما يواكبهم
المفتشون البيداغوجيون في الجانب التعليمي.
من المدرسة العمومية إلى المدرسة الخصوصية: تبدل الوجع وتعدد الوجوه
إن الأزمة التربوية ليست حكرًا على المدرسة
العمومية، وإن اختلفت تمظهراتها. فبينما يعاني الأستاذ العمومي من ضغط الاكتظاظ، وغياب
التحفيز، وتدهور البنية التحتية، يواجه نظيره في المدرسة الخصوصية واقعًا لا يقل قسوة،
يتمثل في اختزال دوره في "تحقيق نتائج رقمية"، وفق منطق تجاري محض.
وقد حدث أن عبّر أحد الأساتذة في مؤسسة
خاصة عن معاناته بقوله:
"حين أبدأ الحديث عن القيم أو المواطنة،
يذكّرني المدير بأنني في حصة رياضيات، لا في درس تربية إسلامية!"
يُمنع الأستاذ في كثير من المدارس الخاصة
من ممارسة دوره التربوي الكامل، بل يُنظر إلى كل دقيقة تُصرف في النقاش القيمي أو الإصغاء
لمشاكل التلاميذ كـ"هدر للزمن المدرسي"، وهو أمر يعكس اختلالًا في الرؤية،
وتغليبًا لمؤشرات الربح على مصلحة المتعلم.
تآكل الهيبة وتنامي مظاهر العنف
إلى جانب كل ما سبق، يشهد الوسط المدرسي
تصاعدًا مقلقًا في حدة العنف، الذي لم يعد مقتصرًا على التلاميذ في ما بينهم، بل طال
الأساتذة أنفسهم. الاعتداءات اللفظية والجسدية أصبحت سلوكًا متكررًا، يُمارس أحيانًا
في وضح النهار، دون أن تجد المؤسسة ما يكفي من الآليات الوقائية أو الردعية لحماية
الأطر التربوية.
وقد أفادت تقارير وطنية بوقوع حوادث اعتداء
على أساتذة، وصلت في بعض الحالات إلى حدود الطعن بالسلاح الأبيض، في مؤشر خطير على
اختلال العلاقة التربوية داخل الفصل، وغياب الإحساس بالأمن الرمزي والمادي للمعلم.
من التعليم إلى التربية... نحو إعادة هندسة المشروع المدرسي
إن أي مشروع إصلاحي للمدرسة المغربية لا
يمكن أن ينجح ما لم يعِ أولويّة التربية في فلسفة التعليم. نحن لا نحتاج فقط إلى تلاميذ
يحفظون الدروس، بل إلى مواطنين صالحين، متشبعين بالقيم، وواعين بدورهم المجتمعي.
ولأجل ذلك، لا بد من:
- إعادة الاعتبار لمفهوم التربية كمكوّن
أساس في مهام الأستاذ.
- إحداث مسارات للتفتيش التربوي المتخصص
في تتبع سلوك التلاميذ ومواكبة أنشطة القيم.
- مراجعة برامج التكوين الأساس والمستمرللأطر
التربوية، وإدماج وحدات علم النفس التربوي والتربية الأخلاقية.
- تحصين المدرسة قانونيًا ومجتمعيًا لحماية
الفاعلين التربويين واستعادة هيبة المعلم.
أي مستقبل نريد؟
لن تصلح المدرسة المغربية ما لم تُصلح صورتها
عن ذاتها، وتعيد تحديد وظيفتها. فالمدرسة ليست فقط فضاء لتفريغ المعارف، بل بيئة حاضنة
للطفولة والمراهقة، ومساحة لغرس القيم، وتوجيه السلوك، وتنمية الإنسان من الداخل.
وإن كنا نريد مستقبلًا مختلفًا، فعلينا
أن نُربّي قبل أن نُعلّم، ونرافق قبل أن نُلقّن، ونعيد للمدرسة روحها، لا فقط مقرراتها.