الذكاء الاصطناعي والإبداع الإنساني: هل انتهى عصر الفنان؟ بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري - النهج
728x90

2025-06-25

الذكاء الاصطناعي والإبداع الإنساني: هل انتهى عصر الفنان؟ بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري





منذ فجر التاريخ، كان الإبداع الفني هو العلامة الفارقة في تميّز الإنسان عن سائر الكائنات. الرسم، الموسيقى، الأدب، والرقص... كلها كانت تجليات لوعي الإنسان، روحه، وتمرده على الجمود. لكننا اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، نواجه تحدّيًا وجوديًا للإبداع ذاته: هل يمكن للآلة أن تُبدع؟ وهل نحن بصدد نهاية "عصر الفنان" كما نعرفه؟

الذكاء الاصطناعي لم يعُد أداةً مساعدة في يد الفنان، بل بات منتِجًا للعمل الفني نفسه. لوحات تُرسم آليًا، قصائد تُكتب بخوارزميات، وأغانٍ تُؤدى بأصوات اصطناعية لا تُميّز عن الأصل... أمام هذا الواقع، تنهض أسئلة جوهرية تتصل بـ"جوهر الفن"، و"مستقبل الثقافة"، و"مصير الإنسان كمبدع".

 

أولاً: من يُبدع اليوم؟ الإنسان أم الآلة؟

في عام 2022، بيعت لوحة مرسومة بالذكاء الاصطناعي  في مزاد علني بـ430 ألف دولار. في 2023، أُدرجت رواية مكتوبة جزئيًا عبر "ChatGPT" في القائمة الطويلة لجائزة أدبية آسيوية. وفي 2025، بدأت منصات إنتاج الموسيقى باستبدال ملحنين بشبكات عصبونية قادرة على تأليف نغمات أصلية تستجيب لذوق الجمهور.

لكن، هل هذه الإنجازات تُعد "إبداعًا"؟ أم أنها مجرد محاكاة ذكية لبيانات سابقة؟
السؤال هنا يتجاوز الأداء التقني إلى ماهية الإبداع ذاته:
هل الإبداع هو التجديد؟ التأثر والتأثير؟ المعاناة؟ التجربة الوجودية؟ أم أنه فقط "إنتاج شيء جديد وجميل"؟

 

ثانيًا: الفن كمنتج ثقافي أم كتجربة إنسانية؟

يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي لا "يُبدع" بقدر ما "يركب" و"يستنتج" بناءً على بيانات سابقة. أي أنه لا يحمل تجربة شخصية، ولا إحساسًا بالدهشة، ولا ألمًا داخليًا يولّد الفن.

مثال: يمكن لخوارزمية أن تُنتج موسيقى حزينة، لكنها لا "تشعر بالحزن". فهل ذلك يُفقد العمل عمقه الروحي؟
من هنا، يرفض كثير من الفنانين والنقّاد مساواة الفن الاصطناعي بالفن الإنساني، لأن الذات الخلاقة غائبة.

لكن، على الطرف المقابل، يُجادل فريق آخر بأن الإبداع لا يقتصر على الإنسان. فلو أنتج الذكاء الاصطناعي عملاً يحرك مشاعر المتلقي، فما الفرق الجوهري بينه وبين الفنان؟ هل نحاكم الفن بناءً على نية صانعه، أم على أثره في وجدان المتلقي؟

 

ثالثًا: تهديد للهوية الثقافية أم فرصة لتجديدها؟

الانتشار السريع لأدوات الذكاء الاصطناعي في صناعة الثقافة يثير مخاوف حقيقية بشأن:

  • فقدان الأصالة.
  • تكرار النماذج الثقافية المستمدة من بيانات غربية بالأساس.
  • طمس الفروقات الجمالية بين الحضارات.

لكن، في المقابل، يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي لتعزيز الحفاظ الرقمي على التراث، وتجديد اللغة البصرية والسمعية للثقافة، وتوسيع قدرة الأفراد على التعبير الفني حتى دون تدريب أكاديمي.

بمعنى آخر: التهديد ليس في التكنولوجيا، بل في كيفية استخدامها.

 

رابعًا: مستقبل الفنان في عصر الآلة

السؤال الحاسم ليس: "هل سينتهي دور الفنان؟"، بل: كيف سيتحول دور الفنان؟

في السينما، يمكن للمخرج أن يُنشئ مشاهد كاملة دون طاقم تصوير.
في الأدب، يمكن للكاتب أن يستخدم الذكاء الاصطناعي لتوسيع آفاقه السردية.
في الموسيقى، قد يصبح الموسيقي "موجّهًا" بدلاً من "ملحن".

أي أن الفنان لن يُلغى، بل سيُعاد تعريفه. الفن سيغدو أكثر تعاونًا بين الإنسان والآلة، بين الشعور والخوارزم.

 

ختاما أقول: نحن أمام لحظة فارقة في تاريخ الثقافة: لم يعد الفن حكرًا على الإنسان، لكنه لم يُنتزع منه أيضًا.
الذكاء الاصطناعي لا يُنهي الإبداع البشري، لكنه يدفعنا إلى إعادة النظر فيه، بل إلى تعميقه وتحريره من أنماطه التقليدية.

السؤال اليوم ليس: "من الأجدر بالإبداع؟"، بل:

كيف نضمن أن يبقى الفن إنسانيًا، حتى في عصر الآلة؟ 

728x90