البصرة المغربية: المدينة التي أنجبها التاريخ ووأدها النسيان بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري - النهج

2025-07-12

البصرة المغربية: المدينة التي أنجبها التاريخ ووأدها النسيان بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري


في عمق السهول الخصبة والخصيبة التي تمتد بين القصر الكبير وسوق أربعاء الغرب، وعلى بعد زهاء أربعين كيلومترًا من هدير الأطلسي، ترقد مدينةٌ مهجورة اسمها البصرة. هذه المدينة التي يوشك الزمن أن يطويها في غياهب النسيان، كانت في يوم من الأيام مركزًا حضاريًا نابضًا ومقرًا للأمراء الأدارسة، وموئلًا للتجارة، والعلم، والسياسة. إنها البصرة المغربية، شقيقة بصرة العراق في التسمية، ومثيلتها في النبوغ والازدهار، والتي تأسست في مطلع القرن التاسع الميلادي، وغدت شاهدًا حيا على تعاقب الدول والتحولات الكبرى في الغرب الإسلامي.

 

أصل التأسيس: من القرية إلى مركز الحكم

 

أسس محمد بن إدريس الثاني مدينة البصرة سنة 218هـ (833م)، في مرحلة كان فيها الكيان الإدريسي بصدد تثبيت سلطانه وتوسيع نفوذه في ربوع المغرب الأقصى. وقد اختير موقع المدينة بعناية، إذ تقع في منطقة استراتيجية بين المحيط والداخل، على مفترق طرق يربط الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، مما أهلها لأن تلعب دورًا مهمًّا في المشهد السياسي والاقتصادي.

 

البصرة، في نشأتها الأولى، لم تكن سوى قرية صغيرة، غير أنها سرعان ما تطورت بشكل مذهل، حتى أضحت مقرًا للأمراء، وعاصمةً فرعية ذات طابع إداري وتجاري، تعج بالحياة والنشاط. ولعل هذا التسارع في النمو يشي بوجود خطة عمرانية مدروسة، تحكمت فيها رهانات السلطة وضرورات الاستقرار.

 

مرحلة التحولات الكبرى: بين الحكم الإدريسي والعبيدي والزيري

 

في سنة 958م، ومع التصدعات التي عرفها المغرب بعد انهيار الوحدة الإدريسية، تأسست دولة إدريسية صغيرة عاصمتها مدينة البصرة، وتبعت في ولائها السياسي للخلافة الفاطمية العبيدية، وقد امتدت هذه الدولة من الريف إلى غمارة، في محاولة لإحياء النفَس الإدريسي في وجه الزحف الزناتي والمطامع الخارجية.

 

لكن هذا الكيان لم يعمّر طويلًا، ففي سنة 979م، قاد أبو الفتوح بلقين بن زيري حملة عسكرية في اتجاه سبتة، وأثناء مروره بالبصرة قام بتدمير أسوارها، في واحدة من أعنف الضربات التي تلقتها المدينة. غير أن الزناتيين والأندلسيين في سبتة تصدّوا لحملته، مما أعاق توسّع النفوذ الزيري في تلك الجهة.

 

البصرة في عيون الجغرافيين والمؤرخين

 

ابن حوقل، الجغرافي الشهير في القرن العاشر الميلادي، خصّ البصرة بوصف دقيق، أشار فيه إلى أنها مدينة "متوسطة المساحة"، محاطة بأسوار، وتزدهر بمنتجاتها الزراعية، خاصة القطن الذي كانت تصدّره إلى إفريقيا، كما عُرفت بإنتاج القمح، والشعير، ومحاصيل أخرى تدل على خصوبة أرضها وغنى بيئتها.

 

وقد استمرت المدينة في النمو خلال القرن الحادي عشر، حتى غدت إحدى أكبر التجمعات الحضرية في الغرب المغربي. غير أن هذا الازدهار لم يدم، فمع مطلع القرن الثاني عشر بدأت المدينة تفقد مكانتها الاستراتيجية، وتراجع دورها إلى أن دخلت في طور الانحدار. وفي القرن السادس عشر، سجّل الحسن الوزان (ليون الإفريقي) ملاحظته الدقيقة والحزينة عن حال البصرة، مؤكدًا خرابها واندثار عمرانها.

 

التنقيب والبعث الأثري: البصرة تنهض من تحت الركام

 

منذ سنة 1980، شرعت بعثات أثرية مغربية في إجراء حفريات واسعة بموقع البصرة، فأسفرت أعمال التنقيب عن كشف أجزاء مهمة من المدينة، كان أبرزها مصنع للمعادن وأدوات حجرية تعود إلى فترات متعددة، بما يعزز فرضية استمرارية الاستقرار البشري بالمكان.

 

أما السور الدفاعي للمدينة، فقد كشفت الدراسات الأثرية أنه كان يمتد على طول 2.5 كلم، محيطًا بمساحة تبلغ 30 هكتارًا. وهو مبني من الدبش (الحجر) بعرض 2.20 متر، ومدعم بأبراج نصف دائرية. كما تم اكتشاف صهريج حجري مغطى بسقف مقوس، بعرض 4.25 م وطول 6 م، ما يدل على البنية التحتية المتقدمة للمدينة في مجالات تخزين المياه وتدبير الموارد.

 

في معنى التسمية: بين البصرتين

 

على الرغم من أن المصادر التاريخية لم تسعفنا بكثير من التوضيح حول تسمية المدينة بـ"البصرة"، فإن الحسن الوزان أشار إلى أن الأدارسة اختاروا هذا الاسم تيمّنًا ببصرة العرب، البصرة العراقية، والتي منها جاء إدريس بن عبد الله الكامل، الجد الأعلى للأسرة الإدريسية، بعد فراره من بطش العباسيين. وهكذا، فإن التسمية تتجاوز بعدها الجغرافي، لتحمل دلالات رمزية عن الجذور والانتماء والحنين إلى الأصل.

 

دعوة علمية لإحياء الاسم والمكان

 

وقد قدمت بعض الدراسات المعاصرة مقترحًا علميًا وجيهًا، يدعو إلى إعادة إحياء اسم "البصرة" من خلال إطلاقه على الإقليم الإداري الذي يضم بقايا المدينة الأثرية، وفاءً للتاريخ، وصونًا للذاكرة المغربية، وردًّا للاعتبار لموقع لعب دورًا محوريًا في بدايات الدولة المغربية.

 

أعلام من البصرة المغربية

 

رغم ضآلة ما وصلنا من التراجم، إلا أن المصادر ذكرت عددًا من الأعلام الذين انتسبوا إلى مدينة البصرة المغربية، منهم:

 

 - أحمد بن أبي الربيع سليمان الكتامي البصري المقرئ

 

أبو هارون العمري - 

 

عمران بن عبد الله العمري - 

 

بشار بن بركانة - 

 

الفقيه أحمد بن حذافة - 

 

يحيى بن خلف الصدفي - 

 

وقد كانت البصرة، بذلك، لا مجرد مركز سياسي وتجاري، بل بيئة خصبة للعلم والقراءة والدرس.

 

و ختاما أقول:

 

إن البصرة المغربية، برغم خفوت نجمها اليوم، كانت بالأمس مدينة قائمة بذاتها، حاضرة بالمعنى الكامل للكلمة، ومفترقًا مهمًّا في مسار تشكّل الهوية المغربية. إنها شاهد أثري وتاريخي على عصر تشكّلت فيه أولى بذور الدولة في المغرب. وحين نعيد قراءة قصتها، فإننا لا نبحث فقط عن أطلال مدينة مندثرة، بل نستعيد فصلًا من سيرة أمة، وموقعًا من ذاكرة وطن 

728x90