في زمنٍ اشتدّ فيه
الصراع بين النزعات العقلية والمناهج النقلية، وبين الفلسفة والدين، وبين المعايير
الأخلاقية الثابتة والنسبية، برز صوتٌ فريد من طراز العلماء الحكماء، جمع بين عمق
التكوين الأزهري، وصلابة الدرس الفلسفي الغربي، وجرأة التجديد المعرفي. ذلك هو
الشيخ محمد عبد الله دراز، الذي قدّم في كتابه الفذّ "دستور الأخلاق في القرآن" مشروعًا متماسكًا، لا لاستعادة الأخلاق فحسب، بل لبناء نظام أخلاقي
قرآني عالمي المنزع، إنساني الغاية، عقليّ الأساس.
أولًا:
عن خلفية الكتاب
ألّف دراز هذا الكتاب
أولًا كأطروحة دكتوراه في جامعة السوربون، باللغة الفرنسية، تحت عنوان La morale du Coran. ولم يكن هدفه الدفاع العاطفي عن القرآن، بل تقديم دراسة موضوعية،
نقدية، مقارنة، تتوسل أدوات الفلسفة الأخلاقية الحديثة، من كانط إلى بنتام، ومن
سقراط إلى نيتشه، لتُظهر أن القرآن لا يُقدّم مجرد وصايا دينية، بل ينطوي على
رؤية أخلاقية نسقية متكاملة، تضاهي وتتفوق على أشهر النظريات الغربية.
ثانيًا:
الأخلاق القرآنية بين العقل والوحي
أراد دراز أن يفكّ
الارتباط السطحي بين الأخلاق والإيمان بالمفهوم التقليدي، ويعيد تأسيس العلاقة
بينهما على قاعدة عقلية وروحية في آن. فالقرآن، في رؤيته، لا يفرض الأخلاق فرضًا
خارجيا، بل يخاطب ضمير الإنسان، باعتباره كائنًا حرًّا عاقلاً مسؤولًا.
وفي هذا، يتقاطع مع "كانط"، لكنه
يذهب أبعد، إذ يرى أن الضمير لا يكتمل إلا حين يتصل بالله، مصدر الخير المطلق،
فيتحوّل الإلزام الأخلاقي من قانون عقلي مجرد إلى ميثاق روحي حيّ، يستند إلى
المحبة والرهبة، لا الجبر والإكراه.
ثالثًا:
منطق الإلزام في التصور القرآني
يُفرد دراز فصلًا
بالغ الأهمية في تتبع السؤال الجوهري: لماذا يجب أن أكون
أخلاقيًّا؟
ويجيب: لا لأن المجتمع يفرض ذلك، ولا لأنني
سأنتفع به لاحقًا، بل لأنني مسؤول أمام الحق.
فالقرآن يجعل من النية والمقصد أساسًا
في تقييم الأفعال، ويعيد تعريف "الخير" لا بما هو نافع أو سارّ، بل بما
يعبّر عن استقامة الذات أمام الحقيقة.
رابعًا:
المقارنة مع الفلسفة الغربية
لا يكتفي دراز ببيان
التفوق الأخلاقي للقرآن، بل يُجري مقارنة دقيقة بينه وبين أبرز النظريات الغربية،
فيخلص إلى ما يلي:
خامسًا:
القرآن كمنظومة قيمية لا تجزيئية
يرى دراز أن الأخلاق
في القرآن ليست بابًا من أبوابه، بل هي روح تسري في كل تعاليمه. فالعبادات لا تُفهم إلا من خلال أثرها الأخلاقي، والمعاملات لا تُوزن
إلا بميزان القسط.
وفي هذا السياق، يعيد قراءة مفردات مثل التقوى،
الإحسان، البر، العدل، الصدق، الأمانة، لا كقيم وعظية، بل كأركان في بنية
حضارية قادرة على إنتاج مجتمع إنساني راقٍ، من الداخل لا من الخارج.
سادسًا:
البعد الكوني في مشروع دراز
رغم انطلاقه من
المرجعية الإسلامية، فإن دراز يخاطب العقل الإنساني العام، ويؤسس لأخلاق
"عالمية"، لا تتطلب الدخول في الإسلام، بل الانفتاح على الوحي بوصفه
خطابًا للإنسان بما هو إنسان.
من هنا، يمكن القول إن "دستور الأخلاق
في القرآن" ليس فقط دفاعًا عن الإسلام، بل مساهمة فلسفية أصلية في الفكر
الأخلاقي المعاصر.
و ختاما
أقول : يخرج القارئ من هذا
السفر الفريد مشحونًا بشعور مضاعف: الاعتزاز بهذا النص
القرآني العظيم، والاحترام العميق لعقل هذا المفكر النادر.
لقد قدّم محمد عبد الله دراز في
"دستور الأخلاق في القرآن" أكثر من كتاب:
قدّم برهانًا عقليًا على أن الدين لا
يتناقض مع الفلسفة، بل يكمّلها؛
قدّم صوتًا إسلاميًّا حديثًا يحاور
العالم بلغة العقل، لا بلغة الحنجرة؛
وقبل ذلك، قدّم مشروعًا لأخلاق قادرة
على أن تُعيد للإنسان كرامته، وللحرية معناها، وللقيم روحها.
#أدبيات