الأمية الدينية والتطرف: أزمة فهم لا أزمة نصوص بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري - النهج

2025-07-31

الأمية الدينية والتطرف: أزمة فهم لا أزمة نصوص بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري


في زمن يشهد تصاعد الأزمات الفكرية والدينية، وتنامي الخطابات المتطرفة، تبرز الأمية الدينية كجذرٍ خفيٍّ وعميق لكثير من المظاهر الشاذة عن روح الإسلام ومقاصده. وإذا كانت الأمية التقليدية تعني الجهل بالقراءة والكتابة، فإن الأمية الدينية ــ في هذا السياق ــ تتجاوز تلك الدلالة إلى ما هو أخطر: الجهل بأساسيات الدين، وقواعد الفهم السليم للنصوص، ومقاصد الشريعة، وسنن التنزيل، مما ينتج عنه انحراف في الاعتقاد، واضطراب في الفهم، وتطرف في السلوك.

 

الأمية الدينية.. غياب الفهم لا غياب المعلومة

 

لقد أصبح من السهل في عصر التكنولوجيا الوصول إلى النصوص الدينية، سواء أكانت قرآنية أو نبوية، لكن هذا التيسير لم يكن مقرونًا غالبًا بإطار منهجي لفهم تلك النصوص. إن الجهل بالدين لا يعني فقط الجهل بآيات القرآن أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتجاوز ذلك إلى الجهل بمقاصد الشريعة، وسياقات النصوص، ومراتب الأدلة، وضوابط الفتوى والاجتهاد.

 

إن الأمة التي يغيب عنها الوعي بمبادئ التوحيد، والرحمة، والعدل، ومكانة العقل في الإسلام، تصبح بيئة خصبة لتلقف الأفكار المنحرفة، سواء كانت من دعاة الغلو أو من دعاة التفريط.

 

التطرف اليميني.. من الجهل إلى التكفير

 

يولد التطرف في أقصى اليمين من رحم الأمية الدينية التي تغيب عنها فقه المقاصد، وفقه المآلات، والوعي بتاريخ التراث الإسلامي. فتنشأ جماعات تتبنى قراءة حرفية قاصرة للنصوص، تقفز على الإجماع، وتزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، وتستبيح الدماء والأعراض باسم الدين.

 

لقد عانت المجتمعات الإسلامية والعالم أجمع من موجات إرهابية اتكأت على تأويلات مشوهة، وتفسيرات مغلقة، قامت على قاعدة «نحن ومن خالفنا كفار»! هذه النزعة التكفيرية تجد جذورها في تغييب علوم أصول الفقه، والتفسير المقاصدي، وأدب الاختلاف.

 

التطرف اليساري.. من التفكيك إلى الإنكار

 

على الضفة الأخرى، يظهر تطرف فكري موازٍ، لا يقل خطورة عن الأول، يتمثل في إنكار السنّة النبوية، والتشكيك في الصحابة، وهدم الثوابت التي استقر عليها وعي الأمة عبر القرون. ويتذرع هذا الاتجاه أحيانًا بالحداثة، أو ما يسميه «تحرير العقل»، لكنه في كثير من الأحيان يقوم على جهل بالسياق التاريخي للتشريع، وبوظيفة السنّة في بناء المنظومة التشريعية، وبأصول نقد الرواية عند علماء الحديث.

 

إن إنكار السنّة ليس موقفًا نقديًا علميًا، بقدر ما هو انفصال عن البنية التفسيرية والتشريعية التي لا يستقيم الفهم الإسلامي من دونها، ما يؤدي إلى قراءة مبتورة للإسلام، يُعاد فيها تشكيل الدين على مقاسات النزعة الفردية أو الرغبة في التوافق مع معايير الحداثة الغربية.

 

الحاجة إلى تجديد التعليم الديني

 

الخروج من مأزق التطرف بأنواعه يبدأ من مراجعة جادة وشاملة لطرق التعليم الديني، سواء في المدارس أو المساجد أو وسائل الإعلام. إننا بحاجة إلى استعادة مناهج تعليمية تربط النص بالمقصد، وتعلّم الناس التفريق بين القطعي والظني، وتدربهم على التفكير النقدي داخل المرجعية الإسلامية.

 

ولا يمكن أن نواجه التطرف بالغلو أو التفريط إلا بتكوين جيل يدرك أن الإسلام دين وسطي جامع، لا يلغي العقل، ولا يتخلى عن الوحي، ويؤمن بأن «العدل» و«الرحمة» هما من أعظم مقاصده. وأن عملية الإصلاح الذاتي تبدأ من الداخل لا من الخارج، أي تبدأ بتأسيس الوعي الإيماني أولا والاستصلاح الأخلاقي القائم على علاقة الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع الناس ومع محيطه.

 

نحو خطاب ديني متوازن

 

لا بد من استعادة الخطاب الديني المتزن، الذي يؤسس للوعي والأخلاق، ويجيب عن أسئلة الواقع، ويعيد الثقة بين الناس وعلمائهم. خطابٌ لا يكتفي بالإدانة، بل يمارس التربية الفكرية، ويعيد بناء العلاقة بين المسلم ونصوصه، في ضوء مقاصد الشريعة الكبرى: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

 

إن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في مواجهة التطرف حين يظهر، بل في تحصين العقول قبل أن تقع، ووقاية المجتمعات قبل أن تنزلق. ولن يكون ذلك إلا بالعلم الراسخ، والوعي العميق، والخطاب المتجدد.

 

 خلاصة القول و زبدة الكلام


الأمية الدينية ليست مجرد نقص في المعلومات، بل هي اختلال في آلية الفهم، وانقطاع عن المنهجية العلمية في التعامل مع الوحي. وهي التي تفتح الطريق أمام الغلو في التكفير أو التفريط في الأسس، فتنتج أنماطًا من التطرف تنخر جسد الأمة من الداخل. ولا سبيل إلى استعادة التوازن إلا بنشر العلم الراسخ، وتعزيز المنهج الوسطي، وتجديد فهم النص في ضوء المقاصد والمآلات، وهو مشروع جماعي، يحتاج إلى تكاتف العلماء والمفكرين والمربين وصناع القرار 

728x90