الاستغلال الرشيد للإجازة الصيفية: بين مفهوم التعطيل وفرصة الاقتراب من الله بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري - النهج
728x90

2025-06-25

الاستغلال الرشيد للإجازة الصيفية: بين مفهوم التعطيل وفرصة الاقتراب من الله بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري




يستقبل الناس فصل الصيف بشغف كبير، لما يحمله من إجازات طويلة تتيح فسحة من الزمن خارج أطر العمل والدراسة. غير أن هذا الاستعداد غالبًا ما يتخذ طابعًا استهلاكيًا وترفيهيًا صرفًا، قائمًا على تعطيل الطاقات وهدر الأوقات، متناسين أن الزمن من أنفس ما يملك الإنسان، وأن لحظاته محاسَبٌ عليها بين يدي الله. ومن هنا، يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن استثمار الإجازة الصيفية استثمارًا رشيدًا يراعي مقصد الشرع، ويحقق مصلحة الفرد والمجتمع؟

 

أولًا: إعادة النظر في مفهوم "العطلة"

المدخل الأهم لفهم طبيعة الإجازة الصيفية هو تصحيح مدلولها اللغوي والثقافي. فكلمة "عُطلة" مأخوذة من الجذر "عَطَلَ" الذي يدل على الخلو من العمل أو الفعل. وفي هذا المعنى ما يوحي بالتوقف والانقطاع، وهو ما يتعارض مع الرؤية الإسلامية للزمن والحياة، حيث الإنسان في شُغل دائم مع الله، كما قال تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ" البلد: 4.

إن الشريعة لا تعرف ما يسمى بـ"الفراغ المطلق"، بل إن كل لحظة من لحظات العمر هي موطن للتكليف: "فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب" الشرح: 7–8. وعليه، فالإجازة ليست عطلة عن العبادة، ولا تعليقًا لمقتضى العبودية، بل هي تحوّل في نوع الاشتغال، من شغل دنيوي إلى شغل تعبدي وتنموي.

 

ثانيًا: الإجازة الصيفية بين الترويح والطاعة

من تمام رحمة الله بعباده أن رخّص لهم في الترويح عن النفس، بشرط ألا يخرج ذلك عن دائرة المباح. قال النبي :  "ساعة وساعة".

وهذا يعني أن النفس البشرية تحتاج إلى فترات استجمام لتجدد نشاطها، وتستعيد طاقتها، لتواصل السير إلى الله بوعي وإرادة. ومن هنا فإن الترفيه المباح ليس مضادًا للطاعة، بل قد يكون معينًا عليها، إذا التزم ضوابط الاعتدال.

وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر -رضي الله عنه- الطويل: عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه من أنواع العلم والحكمة - وفيه: أنه كان في حكمة آل داود -عليه السلام-: "حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه، ويحدثونه عن ذات نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات".

لكن الترويح لا يعني الانفلات، ولا يجوز أن يكون غايةً مستقلة، بل وسيلة من وسائل تزكية النفس وإعدادها للعمل الصالح.

 

ثالثًا: الإجازة كفرصة للاجتهاد في الطاعة

كثيرًا ما يعلل الناس تقصيرهم في العبادات، وفي بناء علاقتهم مع القرآن، أو في طلب العلم الشرعي، بكثرة الانشغال والعمل. فإذا جاءت الإجازة، فقد ارتفع العذر، وسقطت الحجة، وآن للعبد أن يري الله من نفسه خيرًا.

هذه الفترة ينبغي أن تُغتنم في:

  • ختم القرآن الكريم بتدبر، وليس مجرد تلاوة...
  • تعلم أحكام الدين التي لا يسع المسلم جهلها...
  • الاشتغال بالعبادة من المحافظة على الصلوات في المساجد، وقيام الليل، الاشتغال بالذكر...
  • ممارسة أعمال تطوعية تُخدَم بها القيم، وتُبنى بها المجتمعات...

قال الحسن البصري: "ابن آدم إنما أنت أيام؛ فإن ذهب يوم ذهب بعضك".

 

رابعًا: بناء الذات واكتساب المهارات

الإجازة الصيفية فرصة ذهبية لتطوير الذات واكتساب مهارات جديدة، سواء علمية أو حياتية. والإسلام يحث على العمل والإتقان، فقال النبي "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه".

ومن ذلك:

  • تعلم اللغات النافعة.
  • إتقان مهارات تقنية.
  • الانخراط في دورات قيادية أو بحثية.
  • المساهمة في بناء مشاريع مجتمعية.

وهذا يجعل من الإجازة محطة استراتيجية لإعادة التأهيل الروحي والذهني والجسدي، بما يحقق التوازن المطلوب بين متطلبات الدنيا والآخرة.

خاتمة

ليست الإجازة الصيفية وقتًا للتعطيل، ولا فسحةً للهروب من معاني العبودية، بل هي امتحان آخر من امتحانات العمر. فكما أن العام الدراسي أو العمل المهني ميدان للبذل والعطاء، فإن الإجازة ميدان للصدق مع الله:

"وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا" [المزمل: 20].

فلنحذر أن نكون ممن أعطاه الله وقتًا فلم يملأه بالطاعة، وأمهله فلم يتقرب، وفرّغ له الزمن فلم يستثمره في الخير. ولنجعل من هذه الإجازة فرصة لنقطة تحوّل، نخرج منها أقرب إلى الله، وأصلب في البناء، وأكثر نفعًا لذواتنا وأمتن فقد قال رسو الله :   "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناسالصحة والفراغ" 

728x90