دلائل الخيرات: بين الاتهام والإنصاف بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري - النهج
728x90

2025-06-28

دلائل الخيرات: بين الاتهام والإنصاف بقلم الأستاذ أيوب الهسكوري


لا تزال الصلاة على النبي إحدى أجلّ الطاعات، وأعظم القربات، فقد قرنها الله عز وجل بصلاته هو وملائكته، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

 

ولأجل هذا المقام الشريف، اعتنى علماء الأمة على مرّ العصور بجمع صيغ الصلاة على النبي ، وتدوينها في أسفار خاصة، يقرؤها الناس تعبُّدًا وتعلُّقا وتحققا، من باب الفضائل، ومن أشهر تلك المصنفات: كتاب دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار للإمام محمد بن سليمان الجزولي الحسني المغربي (ت. 870هـ).

 

غير أن هذا الكتاب الشريف، الذي تلقّته الأمة بالقبول، لم يسلم من ألسنة بعض المتعجلين، الذين نسبوه إلى الابتداع والانحراف، ووصموه بأوصاف مسيئة مشينة، وصلت ببعضهم إلى تسميته "دلائل الخيبات"، في تطاول فاحش، وجهلٍ ظاهر.

هذا المقال يتناول هذه الدعوى بنقاش علمي متزن، يرتكز إلى النصوص والأصول، وأقوال الأئمة، دفعًا للشبهة، وإنصافًا للحق.

 

أولًا: حقيقة كتاب دلائل الخيرات

▪ كتاب دلائل الخيرات هو مجموعة من الأدعية والأذكار والصلوات على النبي ، كتبها الإمام الجزولي بنَفَسٍ صوفي سني، يتوسل فيها إلى الله بحب النبي وتعظيمه، ويحث القارئ على الإكثار من الصلاة عليه، بأسلوب أدبي مشرق، وروحانية رفيعة.

 

▪ لم يتضمن الكتاب شيئًا من المخالفات العقدية البيّنة، ولا ما يخرج عن دائرة المشروع، بل إن أغلب صلواته مأخوذة من نصوص الأحاديث أو معانيها، أو من صيغ أُثرت عن بعض العلماء والصالحين.

 

▪ وقد نال هذا الكتاب قبولًا واسعًا بين أهل العلم والعمل، وامتد أثره من المغرب إلى المشرق، وتُرجم إلى لغات شتى، وشُرِح وعلّق عليه، واعتُمد في زوايا الصوفية كوردٍ يومي، وأُثِر عنه من البركات ما لا يُحصى.

ولم يكن الإمام الجزولي بدعا ممن ألفوا وجمعوا صيغ و تصليات على حضرة رسول الله فقد كان إسماعيل بن إسحاق القاضي (توفي 282هـ) هو أول من ألف كتابًا مستقلًا في جمع أحاديثِ فضل الصلاة على النبي ، بعنوان «فضل الصلاة على النبي ». وقد وقع تحقيقه من قبل الشيخ الألباني رحمه الله ونشره المكتب الإسلامي ببيروت. ثم تلا ذلك تتابع مؤلفين أنجزوا صيغًا وصلوات من بينهم: ابن بشكوال، جبر القرطبي، ابن العربي الحاتمي، ابن وداعة، وابن أبي الحجلة، في القرنين 6–8هـ.

وخلال الفترة نفسها، تولّى علماء كبار مثل ابن القيم، الفيروزابادي، السخاوي، وابن حجر الهيتمي تأطير هذا الفن في صيغ روحية علمية.

ولذا، دلائل الخيرات ليست البداية، بل نقطة ذروة ورثت طاقة واسعة من التراث.

 

ثانيًا: في الرد على من يبدّع هذا الكتاب

إن من يتّهم دلائل الخيرات بالبدعة، فإن طعنه يتجه إلى جواز إنشاء صيغ جديدة للصلاة على النبي ، زاعمًا أن المشروع إنما هو الصلاة الإبراهيمية أو بعض الصيغ الثابتة، وكل ما عداها محدث ومبتدع...

 

وهذا القول مردود بالأدلة الصريحة، وأقوال أهل العلم:

1. النص الصريح: "فإن زدت فهو خير لك"

فقد أخرج الترمذي عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أبي: قلت، يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت، قال: قلت: الربع؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

 

 و وجه الاستدلال هنا:

 

▪ إطلاق النبي الأمر بالإكثار: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك"، دليل واضح على مشروعية الزيادة في الصلاة عليه بالكم و الكيف.

 

▪ الحديث لم يُقيّد الزيادة بصيغة معينة، وإنما أطلق، وهو إقرار ضمني بأن الصلاة على النبي ليست محصورة في صيغة واحدة خارج الصلاة المفروضة.

 

2. تعدد الصيغ النبوية يدل على التنوع لا الحصر

▪ وردت عن النبي صيغ متعددة للصلاة عليه في غير موضع، ومنها:

"‌اللَّهُمَّ ‌صَلِّ ‌عَلَى ‌مُحَمَّدٍ ‌وَعَلَى ‌آلِ ‌مُحَمَّدٍ، ‌كما ‌صليت ‌على ‌إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" رواه البخاري ومسلم.

‌"اللَّهُمَّ ‌صَلِّ ‌عَلَى ‌مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ‌فِي ‌الْعَالَمِينَ ‌إِنَّكَ ‌حَمِيدٌ ‌مَجِيدٌ". رواه مسلم.

"‌اللهُمَّ ‌صَلِّ ‌عَلَى ‌مُحَمَّدٍ ‌وَعَلَى ‌أَهْلِ ‌بَيْتِهِ، ‌وَعَلَى ‌أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". رواه الإمام أحمد.

"‌اللهُمَّ ‌صَلِّ ‌عَلَى ‌مُحَمَّدٍ ‌النَّبِيِّ ‌الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" رواه أحمد.

"اللَّهُمَّ ‌صَلِّ ‌عَلَى ‌مُحَمَّدٍ ‌عَبْدِكَ ‌وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا باركت على إبراهيم وآل إبراهيم". رواه البخاري.

 

وهذا يدل على أن الصلاة عليه ليست توقيفية من حيث اللفظ، وإنما يُراعى فيها المعنى المشروع، وقد أجاز العلماء إنشاء صيغ ما دامت خالية من المخالفات.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

" هذا الإمامُ الشافعي أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه : اللهم صلِّ على محمد ، إلى آخر ما أدَّاه إليه اجتهاده ، وهو قوله : كلما ذكره الذاكرون ، وكلما غفل عن ذكره الغافلون. وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه "سبحان الله عدد خلقه".

وقد عقد القاضي عياض بابا في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب " الشفاء " ، ونقل فيه آثارا مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين " انتهى . 

نقله محمد بن محمد الغرابيلي (835هـ) وكان ملازما لابن حجر، كما في إحدى المخطوطات التي وقف عليها الشيخ الألباني رحمه الله، انظر " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " (172) ، وانظر " أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " (3/939) .

 

ثالثًا: في تفنيد شبهات الطاعنين

الشبهة الأولى: الصلاة الإبراهيمية كافية، وكل ما عداها بدعة!

الجواب: نعم، الصلاة الإبراهيمية هي الأكمل والأفضل، خاصة في الصلاة المفروضة، لكن لا يمنع ذلك من إنشاء صيغ أخرى في غير التشهد، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة، وممارسة الصحابة والتابعين، وأقوال الأئمة.

 

الشبهة الثانية: هذه الصيغ فيها غلو في النبي !

الجواب: لا يجوز تعظيم النبي بما يخالف الشرع، لكن ألفاظ دلائل الخيرات لا تشتمل في أصلها على شيء من ذلك، بل فيها توقير واعتراف بفضله وعلوّ مقامه، وهو أمر مشروع بنص القرآن، قال تعالى:

{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].

 

رابعًا: في الأدب مع علماء الأمة

الإمام الجزولي لم يكن جاهلًا ولا دجّالًا، بل كان من كبار علماء المغرب، ومن أهل الورع والصلاح والزهد والولاية، تشهد له مصنفاته وتلامذته وسيرته.

فالطعن في كتابه بهذه الطريقة السفيهة لا يدل على غيرة على السنّة، بل على جهل بأدب الخلاف، وتسرّع في الإنكار بغير علم.

 

وختاما أقول: من لم يشأ قراءة دلائل الخيرات، فله ذلك، ولا يُجبر عليه أحد. لكن ليس من الورع ولا من الفقه أن يُرمى هذا الكتاب الجليل بالبدعة، وهو لا يخرج في مضمونه عن دائرة المشروع.

والواجب على طلاب العلم أن يوقّروا علماء الأمة، ويُحسنوا الظن بمقاصدهم، ويزنوا الأمور بموازين التحقيق لا الهوى و التقليد الأعمى.

"وإن زدتَ فهو خير لك..."

فأيّ نصّ أبلغ من هذا في بيان أن باب الصلاة على النبي مفتوح على مصراعيه، لمن شاء أن يكثر، ويُبدع في التعبير عن محبته، دون أن يخرج عن حد الشرع؟ 

1 تعليق:

avatar

بوركت يراعكم وما تخطه يمينكم سيدي أيوب.
نفعنا الحق بجليل صلوات هذا الكتاب.

رد

728x90