مع حلول العام الهجري الجديد، تُقبل أعداد
غفيرة من المسلمين على إخراج زكاة أموالهم، امتثالاً لركن من أركان الإسلام، وتعبيراً
عن وعي ديني متجدد. غير أن التساؤل الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو:
هل تُوظف هذه الزكاة اليوم بالصورة التي تحقق غايتها الأصلية في محاربة الفقر وبناء
مجتمع متوازن؟ وهل تُدار موارد الزكاة كأداة تنموية حقيقية أم تُفرغ من مضمونها لتُختزل
في عطاء استهلاكي محدود الأثر؟
الزكاة بين النص والمقصد: نحو فهم تنموي
الزكاة ليست مجرد إحسان فردي، ولا هي
"صدقة اختيارية"، بل هي فريضة مالية واجبة شرعاً، تُؤدى وفق ضوابط دقيقة،
ولها مصارف حددها القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى:
"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ..." [التوبة:
60].
المقصد الأساس للزكاة هو بناء العدالة الاجتماعية
عبر التمكين الاقتصادي للفئات المستضعفة، لا عبر إبقائها في حالة عوز دائم. فالزكاة
ليست مجرد نقل مؤقت للثروة، بل هي أداة لتغيير بنية المجتمع من خلال خلق فرص مستدامة
للعيش الكريم.
الإشكال في آليات التوزيع: هل 200 درهم تقضي على الفقر؟
تشهد المجتمعات الإسلامية، ومنها المغرب،
مظاهر تكررت لعقود: إخراج الزكاة في أظرفة نقدية لا تتجاوز 200 درهم، وتوزيعها على
فقراء أحياء أو مناطق معينة. وهذه الممارسة، رغم نبل نيتها، لا تسهم في بناء مسارات
تنموية حقيقية. فبقاء الفقير محتاجاً للزكاة في كل عام، هو مؤشر على فشل في تحقيق المقصد
الشرعي من هذه الفريضة.
بل إن النموذج الفعال للزكاة يجب أن يتجاوز
تقديم "السمكة" ليُعنى بتعليم "الصيد": التكوين المهني، تمويل
المشاريع الصغيرة، الدعم الصحي والتعليمي، هي نماذج واقعية قادرة على إخراج الفقير
من دائرة الحاجة إلى دائرة الإنتاج، ليصبح ـ في غضون سنوات ـ من دافعي الزكاة لا من
متلقيها.
الرؤية الملكية الثاقبة: الحسن الثاني أنموذجاً
في خطاب تاريخي ألقاه المغفور له جلالة
الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، بتاريخ 12 أكتوبر 1979، بمناسبة افتتاح الدورة
الأولى لمجلس النواب، طرح جلالته رؤية تنموية رائدة للزكاة، حيث دعا إلى سن قانون يُلزم
الأثرياء المغاربة بإخراج زكاة أموالهم، على أن تُصرف لا على البيروقراطية ولا على
الامتيازات، بل على المشاريع الاقتصادية والاجتماعية في مختلف الجهات.
قال جلالته بالحرف:
"تلك الزكاة التي سيذهب ريعها لا في
الموظفين ولا في البذخ ولا في الرخاء، بل ستوزع سنوياً على الجهات أو الأقاليم لتنهض
بمشاريعها الاجتماعية والاقتصادية."
ورغم أن مشروع القانون لم يُفعّل حتى بعد
أربعة عقود، إلا أن تلك الرؤية الملكية تظل شاهداً على إمكان توظيف الزكاة كأداة استراتيجية
للتنمية المحلية، لا كوسيلة ظرفية لتسكين الآلام.
أسباب غياب التفعيل: الواقع المغربي نموذجاً
رغم التنصيص المتكرر على وجود "صندوق
خاص بالزكاة" في قوانين المالية المغربية، إلا أن غياب الموارد الموجهة له يفرغه
من مضمونه. والمفارقة أن دولاً إسلامية عديدة نجحت في تفعيل صناديق الزكاة وجعلها أذرعاً
استثمارية لصالح المجتمع، في حين بقي المغرب خارج هذا الإطار، رغم توفره على مؤسسات
وقفية وإدارية مؤهلة لتدبيرها.
إن الزكاة إذا جُمعت ضمن صندوق مركزي مستقل، ووُظفت في مشاريع إنتاجية، فإنها ستخلق
أثراً مضاعفاً يُسهم في تحقيق الأمن الاجتماعي. لكن لابد من بناء الثقة عبر
إدارة شفافة، مستقلة عن تقلبات السياسة، وموجهة نحو أهداف محددة: التعليم، الصحة، التكوين
المهني، دعم المقاولات الصغرى.
من الزكاة الفردية إلى الصندوق الوطني: التحول المطلوب
إن المعضلة الكبرى ليست في "قلة الزكاة"،
بل في "تشتيت أثرها". والانتقال من توزيعها الفردي إلى تجميعها في صندوق
وطني مستقل، يُدار وفق مبادئ الحوكمة والشفافية، من شأنه أن يحقق ثلاثة أهداف مركزية:
- القضاء التدريجي على الفقر البنيوي، عبر تمويل مشاريع تنموية مدروسة.
- تحقيق العدالة المجالية، من خلال توجيه الموارد إلى المناطق الهشة والمهمشة.
- تحفيز الاقتصاد المحلي، بما يتماشى مع مفهوم "المضاعِف الاقتصادي".
الزكاة بوصفها بوابة للنهضة
إن الزكاة ليست مجرد فريضة شرعية، بل هي
مشروع حضاري تنموي متكامل، ومتى أُحسن تدبيرها، فإن أثرها يتجاوز بكثير تقديم معونات ظرفية.
ومثلما دعا جلالة المغفور له الحسن الثاني إلى قانون للزكاة قبل أكثر من أربعين عاماً،
فإن الفرصة لا تزال قائمة لتفعيل هذه الرؤية، شريطة أن نتجاوز الفهم الاستهلاكي نحو
فهم تنموي شامل.
في العام الهجري الجديد، لنجعل من الزكاة انطلاقة جديدة نحو مغرب أكثر عدلاً وتضامناً، حيث تتحول فريضة دينية إلى رافعة تنموية حقيقية.
#إبداعات وآراء #إسلاميات
2 تعليق
صدقت استادي الزكاة يجب أن توزع بطريقة نظامية تتكلف بها الدولة
ردمقال جيد هادف .. يشخص الوضع ويقترح حلول عملية أكثر نجاعة وفق مقاصد الشرع.
ردتحياتي سيدي أيوب